أما لو حصل من الإنسان شيء من التلبس بالذنوب والمعاصي ووقع فيما نهى الله تبارك وتعالى عنه، فإنه بين أمرين:
إما أن الله عز وجل يغفر له ويعفو عنه بتحقيقه للتوحيد- وهذا فضل من الله تبارك وتعالى، وتكرم منه، ويمن به على من يشاء من عباده-.
ولا أدل على ذلك -أي المغفرة- من حديث البطاقة، كما ثبت في الحديث، الرجل الذي يأتي يوم القيامة وله من الذنوب تسعة وتسعون سجلاً، فتوضع في كفة في الميزان ويقال له: هذه ذنوبك وهذه أعمالك أتنكر منها شيئاً؟ فيقول: لا يا ربي، لا يا ربي.
فيقال له: ولكنا لا نظلم أحداً شيئاً، إن لك عندنا "بطاقة".
فيقول:يا ربي! وما تغني هذه "البطاقة" مع هذه السجلات؟
فتخرج، وإذا فيها "لا إله إلا الله". فتوضع في الميزان، ولا يثقل مع اسم الله عز وجل شيء، فإذا بها تهبط -أي تقوى على تلك السجلات وتثقل عليها- فينجو هذا الرجل بفضل الله عز وجل ويصبح من أهل الجنة.
فمثل هذا يرجى لمن حقق التوحيد أن الله عز وجل يغفر له ما دون ذلك من الذنوب والعيوب، وإن كان الأصل في المؤمن أنه يحقق التوحيد قولاً وعملاً، وفروع التوحيد من الطاعات وترك المحرمات، هذه هي الحالة الأولى.
والحالة الأخرى: أن يكون لديه من الذنوب والكبائر والعيوب ما أضعف إيمانه وأتى عليه بنقص شديد، وهو مع ذلك لم يزل من أهل التوحيد، ولم يتلبس بشيء من الشرك، ففي هذه الحالة الذي يحصل- إن دخل النار ولم يشمله فضل الله تبارك وتعالى ولا شفاعة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا الشهداء ولا الصالحين، ولا شيء مما هو من موانع إنفاذ الوعيد في الآخرة، بل استحق أن يدخل النار- فهذا أيضا على سبيل نجاة وإن دخل النار فهو خير من الذين هم أهلها -نسأل الله العفو والعافية-.
فأهل النار الذين لا يحيون فيها ولا يموتون ولا يطمعون في خروج أبداً -نسأل الله أن يحفظنا جميعاً- هو خير منهم، لأنه لا بد أن يخرج بإذن الله، ويكون في هذه الحالة في نار العصاة وليس في نار الكافرين، ولو أشرك بالله لكان في نار الكافرين. كما قال تبارك وتعالى: ((إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ))[المائدة:72].
وكما قال عز وجل: ((إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ))[النساء:48] فلو وقع في الشرك الأكبر لكان في نار الكفار التي لا يطمع أهلها في الخروج أبدا.
لكنه وحالته هذه -مسلم مذنب لم تشمله الشفاعة- هو في نار العصاة التي يخرج أهلها بإذن الله تبارك وتعالى وبفضله، وبشفاعة الملائكة والنبيين والشهداء والصالحين ولو بعد حين، لبثوا ما لبثوا فمآلهم ومصيرهم إلى الجنة، كما ثبت من حديث أنس رضي الله عنه، عند البخاري وغيره أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: {يخرج من النار من كان في قلبه وزن مثقال شعيرة من الإيمان -ثم قال في الثانية- مثقال ذرة -ثم قال في الثالثة- أدنى مثقال ذرة من إيمان} فآخر من يخرج من كان في قلبه أدنى مثقال ذرة من إيمان، فمعنى ذلك أن لديه أصل الإيمان والتوحيد والإنقياد لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.